فصل: فَصْــل في تفسير قوله تعالى {هيت لك قال معاذ الله}

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصــل

فى قوله تعالى‏:‏‏{‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ‏}‏ الآية،وما بعدها إلى قوله‏:‏‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏17ـ24‏]‏، ذكر ـ سبحانه ـ الفرق بين أهل الحق والباطل،وما بينهما من التباين والاختلاف مرة بعد مرة،ترغيبًا فى السعادة وترهيبًا من الشقاوة‏.‏

وقد افتتح السورة بذلك فقال‏:‏ ‏{‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1، 2‏]‏، فذكر أنه نذير وبشير، نذير ينذر بالعذاب لأهل النار، وبشير يبشر بالسعادة لأهل الحق‏.‏

ثم ذكر حال الفريقين فى السراء والضراء، فقال‏:‏‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ

لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 9 ـ 11‏]‏

ثم ذكر بعد هذا قصص الأنبياء، وحال من اتبعهم ومن كذبهم ،/ كيف سعد هؤلاء فى الدنيا والآخرة، وشقى هؤلاء فى الدنيا والآخرة، فذكر ما جرى لهم، إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 100ـ103‏]‏ ‏.‏

ثم ذكر حال الذين سعدوا، والذين شقوا، ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 103‏]‏، فإنه قد يقال‏:‏ غاية ما أصاب هؤلاء أنهم ماتوا والناس كلهم يموتون، وإما كونهم أُهْلِكُوا كلهم وصارت بيوتهم خاوية، وصاروا عِبْرَةَ يذكرون بالشر ويلعنون، إنما يخاف ذلك من آمن بالآخرة، فإن لعنة المؤمنين لهم بالآخرة، وبغضهم لهم كما جرى لآل فرعون ـ هو ـ مما يزيدهم عذابًا، كما أن لسان الصدق وثناء الناس ودعاءهم للأنبياء، واتباعهم لهم هو مما يزيدهم ثوابًا‏.‏

فمن استدل بما أصاب هؤلاء على صدق الأنبياء فآمن بالآخرة خاف عذاب الآخرة،وكان ذلك له آية،وأما من لم يؤمن بالآخرة ويظن أن من مات لم يبعث،فقد لا يبالى بمثل هذا، وإن كان يخاف هذا من لا يخاف الآخرة، لكن كل من خاف الآخرة كان هذا حاله وذلك له آية‏.‏

وقد ختم السورة بقوله‏:‏ ‏{‏وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ‏}‏ إلى آخرها ‏[‏هود‏:‏ 121 -123‏]‏، كما افتتحها بقوله ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 2‏]‏، فذكر التوحيد والإيمان بالرسل، فهذا دين الله فى الأولين / والآخرين، قال أبو العالية‏:‏ كلمتان يُسْأَلُ عنهما الأولون والآخرون، ماذا كنتم تعبدون، وماذا أَجَبْتُم المرسلين‏؟‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 65‏]‏، و ‏{‏أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏62‏]‏، هو الشرك فى العبادة، وهذان هما الإيمان والإسلام، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ تارة فى ركعتى الفجر سورتى الإخلاص، وتارة بآيتى الإيمان والإسلام،فيقرأ قوله‏:‏‏{‏آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏136‏]‏، فأولها الإيمان، وآخرها الإسلام، ويقرأ فى الثانية‏:‏‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏64‏]‏، فأولها إخلاص العبادة لله وآخرها الإسلام له‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏46‏]‏، ففيها الإيمان والإسلام فى آخرها، وقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 69،70‏]‏‏.‏

/ فصـل

وقوله تعالى‏:‏‏{‏كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏1‏]‏،فقد فصله بعد إحكامه،بخلاف من تكلم بكلام لم يحكمه،وقد يكون فى الكلام المحكم ما لم يبينه لغيره،فهو ـ سبحانه ـ أحكم كتابه ثم فصله وبينه لعباده،كما قال‏:‏‏{‏وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏55‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏52‏]‏، فهو ـ سبحانه ـ بينه وأنزله على عباده بعلم ليس كمن يتكلم بلا علم‏.‏

وقد ذكر براهين التوحيد والنبوة قبل ذكـر الفرق بين أهل الحق والباطل، فقال‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ‏}‏ إلـى قولـه ‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏13، 14‏]‏، فلما تحداهم بالإتيان بعشر سور مثله مفتريات هم وجميع من يستطيعون من دونه، كان فى مضمون تحديه أن هذا لا يقدر أحد على الإتيان بمثله من دون الله، كما قال‏:‏ ‏{‏قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏‏.‏

وحينئذ، فعلم أن ذلك من خصائص من أرسله الله، وما كان / مختصا بنوع فهو دليل عليه؛ فإنه مستلزم له، وكل ملزوم دليل على لازمه كآيات الأنبياء كلها، فإنها مختصة بجنسهم‏.‏

وهذا القرآن مختص بجنسهم ومن بين الجنس خاتمهم لا يمكن أن يأتى به غيره، وكان ذلك برهانًا بينًا على أن الله أنزله، وأنه نزل بعلم الله هو الذى أخبر بخبره، وأمر بما أمر به، كما قال‏:‏ ‏{‏لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏166‏]‏، وثبوت الرسالة ملزوم لثبوت التوحيد، وأنه لا إله إلا الله، من جهة أن الرسول أخبر بذلك، ومن جهة أنه لا يقدر أحد على الإتيان بهذا القرآن إلا الله، فإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله، إلى غير ذلك من وجوه البيان فيه، كما قد بسط ونبه عليه فى غير هذا الموضع، ولا سيما هذه السورة، فإن فيها من البيان والتعجيز ما لا يعلمه إلا الله، وفيها من المواعظ والحكم والترغيب والترهيب ما لا يُقَدِّر قدره إلا الله‏.‏

والمقصود هنا هو الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏17‏]‏ حيث سأل السائل عن تفسيرها، وذكر ما فى التفاسير من كثرة الاختلاف فيها، وأن ذلك الاختلاف يزيد الطالب عَمَى عن معرفة المراد الذى يحصل به الهدى والرشاد، فإن الله ـ تعالى ـ إنما نزل القرآن ليهتدى به لا ليختلف فيه، والهدى إنما يكون إذا عرفت معانيه، فإذا حصل الاختلاف المضاد لتلك المعانى التى لا يمكن الجمع بينه / وبينها لم يعرف الحق،ولم تفهم الآية ومعناها ، ولم يحصل به الهدى والعلم الذى هو المراد بإنزال الكتاب‏.‏

قال أبو عبد الرحمن السُلَمِى‏:‏حدثنا الذين كانوا يُقْرِئُونَنَا القرآن ـ عثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهما ـ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبى صلى الله عليه وسلم عشر آيات،لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا‏:‏ فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا‏.‏

وقال الحسن البصرى‏:‏ ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فى ماذا نزلت، وماذا عنى بها‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏، وتدبر الكلام إنما ينتفع به إذا فهم، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏3‏]‏‏.‏

فالرسل تبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وعليهم أن يبلغوا الناس البلاغ المبين، والمطلوب من الناس أن يعقلوا ما بلغه الرسل، والعقل يتضمن العلم والعمل، فمن عرف الخير والشر، فلم يتبع الخير ويحذر الشر لم يكن عاقلا؛ ولهذا لا يُعَدُّ عاقلا إلا من فعل ما ينفعه، واجتنب ما يضره، فالمجنون الذى لا يفرق بين هذا وهذا قد يُلْقِى نفسه فى المهالك، وقد يفر مما ينفعه‏.‏

/ وسُئلَ ـ رَحِمُه الله ـ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ

السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏108‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، قال طوائف من العلماء أن قوله‏:‏ ‏{‏مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ‏}‏ أراد بها سماء الجنة وأرض الجنة، كما ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسَقْفُه عرش الرحمن‏)‏، وقال بعض العلماء فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏105‏]‏، هى أرض الجنة‏.‏

وعلى هذا، فلا منافاة بين انطواء هذه السماء وبقاء السماء التى هى سقف الجنة، إذ كل ما علا فإنه يسمى فى اللغة سماء، كما يسمى السحاب سماء، والسقف سماء‏.‏

/ وأيضًا، فإن السموات وإن طُوِيَت وكانت كالمُهْلِ، واستحالت عن صورتها، فإن ذلك لا يوجب عدمها وفسادها، بل أصلها باق، بتحويلها من حال إلى حال، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏، وإذا بدلت فإنه لا يزال سماء دائمة، وأرض دائمة‏.‏ والله أعلم‏.‏

/  سورة يوسف

وقال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ الله ـ‏:‏

 فَصْــل

قول يوسف صلى الله عليه وسلم لما قالت له امرأة العزيز‏:‏ ‏{‏هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏، المراد بربه فى أصح القولين هنا‏:‏ سيده، وهو زوجها الذى اشتراه من مصر، الذى قال لامرأته‏:‏ ‏{‏أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏21‏]‏، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 21‏]‏‏.‏

فلما وصى به امرأته فقال لها‏:‏ ‏{‏أَكْرِمِي مَثْوَاهُ‏}‏، قال يوسف‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ‏}‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إنَّهٍ لا يٍفًلٌحٍ بظَّالٌمٍون ‏}‏والضمير فى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ معلوم بينهما، وهو سيدها‏.‏

/ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏24‏]‏، فهذا خبر من الله ـ تعالى ـ أنه رأى برهان ربه، وربه هو الله كما قال لصاحبى السجن‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ

مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏37‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏رَبِّي‏}‏ مثل قوله لصاحب الرؤيا‏:‏ ‏{‏\ذًكٍرًنٌي عٌنـدّ رّبٌَك ‏}‏ ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏، قيل‏:‏ أنْسِىَ يوسف ذكر ربه، لَمَّا قال‏:‏‏{‏اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏بل الشيطان أَنْسَى الذى نجا منهما ذكر ربه، وهذا هو الصواب،فإنه مطابق لقوله‏:‏ ‏{‏اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ‏}‏، قال تعالى‏:‏‏{‏فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ‏}‏ والضمير يعود إلى القريب، إذا لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك؛ ولأن يوسف لم ينس ذكر ربه، بل كان ذاكرًا لربه‏.‏

وقد دعاهما قبل تعبير الرؤيا إلى الإيمان بربه، وقال لهما‏:‏ ‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 39، 40‏]‏‏.‏

وقال لهما قبل ذلك‏:‏‏{‏لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ‏}‏ أى‏:‏ فى الرؤيا ‏{‏إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا‏}‏،يعنى‏:‏التأويل ‏{‏ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏37، 38‏]‏، فبذا يذكر ربه ـ عز وجل ـ فإن هذا مما علمه ربه؛ لأنه ترك ملة قوم مشركين لا يؤمنون بالله،وإن كانوا مقرين بالصانع ولا يؤمنون بالآخرة،واتبع ملة آبائه أئمة المؤمنين ـ الذين جعلهم الله أئمة يدعون بأمره ـ إبراهيم وإسحاق ويعقوب،فذكر ربه ثم دعاهما إلى الإيمان بربه‏.‏

ثم بعـد هـذا عبر الرؤيـا فقال‏:‏ ‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا‏}‏ الآية ‏[‏يوسف‏:‏41‏]‏، ثم لما قضى تأويل الرؤيا قال للذى نجا منهما‏:‏ ‏{‏اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏42‏]‏، فكيف يكون قد أَنْسَى الشيطان يوسف ذكر ربه‏؟‏ وإنما أنسى الشيطان الناجى ذكر ربه، أى‏:‏ الذكر المضاف إلى ربه والمنسوب إليه، وهو أن يذكر عنده يوسف‏.‏ والذين قالوا ذلك القول، قالوا‏:‏ كان الأولى أن يتوكل على الله، ولا يقول‏:‏ اذكرنى عند ربك، فلما نسى أن يتوكل على ربه جوزى بِلُبْثِه فى السجن بِضْعَ سنين‏.‏

فيقال‏:‏ ليس فى قوله‏:‏ ‏{‏اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ‏}‏ ما يناقض التوكل، بل قد قال يوسف‏:‏ ‏{‏إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏40‏]‏، كما أن قول أبيه‏:‏ ‏{‏لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 67‏]‏، لم يناقض توكله، بل قال‏:‏ / ‏{‏وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وأيضًا، فيوسف قد شهد الله له أنه من عباده المخلصين، والمخلص لا يكون مخلصًا مع توكله على غير الله، فإن ذلك شرك، ويوسف لم يكن مشركًا لا فى عبادته ولا توكله، بل قد توكل على ربه فى فعل نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏، فكيف لا يتوكل عليه فى أفعال عباده‏.‏

وقوله‏:‏‏{‏اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ‏}‏، مثل قوله لربه‏:‏‏{‏اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 55‏]‏، فلما سأل الولاية للمصلحة الدينية لم يكن هـذا مناقضًا للتوكل، ولا هو من سؤال الإمارة المنهى عنه،فكيف يكون قوله للفتى‏:‏ ‏{‏اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ‏}‏ مناقضًا لِلتَّوَكُّل وليس فيه إلا مجرد إخبار الملك به؛ ليعلم حاله ليتبين الحق، ويوسف كان من أثبت الناس‏.‏

ولهذا بعد أن طلب‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ‏}‏ ، قال‏:‏ ‏{‏ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 50‏]‏، فيوسف يذكر ربه فى هذه الحال، كما ذكره فى تلك، ويقول‏:‏ ‏{‏ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ‏}‏ فلم يكن فى قوله له‏:‏ ‏{‏اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ‏}‏ ترك لواجب، ولا فعل لمحرم، حتى يعاقبه الله على ذلك بلبثه فى السجن بضع سنين، وكان القوم قد عزموا على حبسه إلى حين قبل هذا ظلمًا له، مع علمهم ببراءته من الذنب‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏35‏]‏، ولبثـه فى السجن كان كرامة من الله فى حقه؛ ليتم بذلك صبره وتقواه، فإنه بالصبر والتقـوى نـال ما نال؛ ولهذا قال‏:‏‏{‏أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏90‏]‏، ولو لم يصبر ويتق، بل أطاعهم فيما طلبوا منه جزعًا من السجن، لم يحصل له هذا الصبر والتقوى، وفاته الأفضل باتفاق الناس‏.‏

لكن تنازع العلماء، هل يمكن الإكراه على الفاحشة‏؟‏ على قولين‏:‏

قيل‏:‏ لا يمكن، كقول أحمد بن حنبل وأبى حنيفة وغيرهما، قالوا‏:‏ لأن الإكراه يمنع الانتشار‏.‏

والثانى‏:‏ يمكن، وهو قول مالك والشافعى، وابن عقيل، وغيره من أصحاب أحمد؛ لأن الإكراه لا ينافى الانتشار، فإن الإكراه لا ينافى كون الفعل اختيارًا، بل المكره يختار دفع أعظم الشَرَّيْنِ بالتزام / أدناهما‏.‏ وأيضًا، فالانتشار بلا فعل منه، بل قد يُقَيَّد ويُضْجَع فتباشره المرأة فتنتشر شهوته فتستدخل ذَكَرَهَ‏.‏

فعلى قول الأولين‏:‏ لم يكن يحل له ما طلبت منه بحال، وعلى القول الثانى‏:‏ فقد يقال‏:‏ الحبس ليس بإكراه يبيح الزنا، بخلاف ما لو غلب على ظنه أنهم يقتلونه أو يَتْلِفُون بعض أعضائه، فالنزاع إنما هو فى هذا، وهم لم يبلغوا به إلى هذا الحد، وإن قيل‏:‏ كان يجوز له ذلك لأجل الإكراه لكن يفوته الأفضل‏.‏

وأيضًا، فالإكراه إنما يحصل أول مرة ثم يباشر، وتبقى له شهوة وإرادة فى الفاحشة‏.‏

ومـن قـال‏:‏ الزنـا لا يتصـور فيه الإكراه، يقول‏:‏ فرق بين ما لا فعل له ـ كالمقيد ـ وبين من له فعل ، كما أن المرأة إذا أُضْجِعَتْ وَقُيِّدَتْ حتى فُعِلَ بها الفاحشة لم تأثم بالاتفاق، وإن أُكْرِهَتْ حتى زنت ففيه قولان‏:‏ هما روايتان عن أحمد، لكن الجمهور يقولون ‏:‏ لا تأثم، وقد دل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏، وهؤلاء يقولون‏:‏ فعل المرأة لا يحتاج إلى انتشار، فإنما هو كالإكراه على شرب الخمر، بخلاف فعل الرجل، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏

/ والمقصـود أن يوسف لم يفعل ذنبًا ذكره الله عنـه، وهـو ـ سبحانه ـ لا يذكر عـن أحـد مـن الأنبـياء ذنـبًا إلا ذكر اسـتغفاره منـه، ولم يـذكـر عن يوسـف اسـتغفارًا مـن هـذه الكلمـة، كما لم يذكـر عنـه استغفارًا من مقدمات الفاحشة، فعلم أنه لم يفعل ذنبًا فى هـذا ولا هـذا، بل هَمَّ هما تركه لله، فَأُثِيْبَ عليه حسنة، كما قد بُسِطَ هذا فى موضعه‏.‏

وأمـا مـا يكفره الابتـلاء من السيئات، فذلك جُوْزِىَ به صاحبه بالمصائب المكفرة، كما فى قولـه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ ما يُصيِبُ المؤمـن مـن وَصَبٍ ولا نَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حـزن، ولا غَمٍّ ولا أذى، إلا كَفَّـر الله بـه خطاياه‏)‏، ولما أنزل الله تعالى هذه الآية‏:‏ ‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏، قـال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر، وَأَىُّنَا لم يعمل سـوءًا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ألست تحزن‏؟‏ ألست تنصب‏؟‏ ألست تُصِيبك اللأوى‏؟‏ فذلك مما تجزون به‏)‏ ‏[‏واللأواء‏:‏ الشدة وضيق المعيشة‏]‏‏.‏

فتبين أن قـولـه‏:‏‏{‏فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ‏}‏، أى‏:‏ نسى الفتى ذكر ربه أن يذكر هذا لربـه، ونسى ذكر يوسف ربـه، والمصـدر يضاف إلى الفاعـل والمفعول، ويوسف قد ذكر ربـه، ونسى الفتى ذكـر يوسف ربـه، وأنساه الشيطان أن يذكر ربه هذا الذكر الخاص، فإنه وإن كان يسقى ربه خمرًا، فقد لا يخطر هذا الذكر بقلبه، وأنساه / الشيطان تذكير ربه، وإذكار ربـه لما قـال‏:‏ ‏{‏اذْكُرْنِي‏}‏ ، أمـره بإذكار ربه، فأنساه الشيطان إذكار ربه، فإذكار ربه أن يجعله ذاكرًا،فأنساه الشيطان أن يجعل ربه ذاكرا ليوسف، والذكر هو مصدر، وهو اسم، فقد يضاف من جهة كونه اسمًا،فيعم هذا كله،أى‏:‏ أنساه الذكر المتعلق بربه، والمضاف إليه‏.‏

ومما يبين أن الذى نسى ربه هو الفتى لا يوسف قوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏45‏]‏ ،وقوله ‏:‏‏{‏وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏ ، دليل على أنه كان قد نسى فادكر‏.‏

فإن قيل‏:‏لا رَيْب أن يوسف سَمَّى السيد رَبا فى قوله‏:‏‏{‏اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ‏}‏ و‏{‏ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ‏}‏ ونحو ذلك، وهذا كان جائزًا فى شرعه،كما جاز فى شرعه أن يسجد له أبواه وإخوته، وكما جاز فى شرعه أن يؤخذ السارق عبدًا، وإن كان هذا منسوخًا فى شرع محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏23‏]‏، إن أراد به السيد فلا جناح عليه، لكن معلوم أن ترك الفاحشة خوفًا لله واجب ولو رضى سيدها، ويوسف ـ عليه السلام ـ تركها خوفًا من الله‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ‏}‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏، وقال يوسف ـ أيضًا ـ ‏{‏رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33، 34‏]‏، فدل على أنه كان معه من خوف الله ما يزعه عن الفاحشة، ولو رضى بها الناس، وقد دعا ربه ـ عز وجل ـ أن يصرف عنه كَيْدَهُنَّ‏.‏

وقولـه‏:‏ ‏{‏السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ‏}‏ بصيغة جمع التذكير، وقولـه‏:‏ ‏{‏كَيْدَهُنَّ‏}‏ بصيغة جمع التأنيث، ولم يقـل‏:‏ مما يدعيننى إليـه، دليل على الفرق بين هـذا وهـذا، وأنه كان من الذكور من يدعوه مع النساء إلى الفاحشة بالمرأة، وليس هناك إلا زوجها، وذلك أن زوجها كان قليل الغيرة، أو عديمها، وكان يحب امرأته ويطيعها؛ ولهذا لما اطَّلَعَ على مراودتها قال‏:‏ ‏{‏يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 29‏]‏، فلم يعاقبها، ولم يفرق بينها وبين يوسف، حتى لا تتمكن من مراودته، وأمر يوسف ألا يذكر ما جرى لأحد محبة منه لامرأته، ولو كان فيه غِيْرَة لعاقب المرأة‏.‏

ومع هذا، فشاعت القصة واطَّلَعَ عليها الناس من غير جهة يوسف، حتى تحدثت بها النسوة فى المدينة، وذكروا أنها تراود فتاها عن نفسه، ومع هذا‏:‏ فـ ‏{‏أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 31‏]‏، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن؛ ليقمن عذرها على مراودته، وهى تقول لهن‏:‏‏{‏فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏23‏]‏‏.‏

وهذا يدل على أنها لم تزل متمكنة من مراودته، والخلوة به، مع علم الزوج بما جرى، وهذا من أعظم الدِّياثة ‏[‏الدياثة‏:‏ الرجل الذى لا غيرة له على أهله‏]‏، ثم إنه لما حُبِسَ فإنما حبس بأمرها، والمرأة لا تتمكن من حبسه إلا بأمر الزوج، فالزوج هو الذى حبسه‏.‏ وقد روى أنها قالت‏:‏ هذا القِبْطِىُّ هتك عرضى فحبسه، وحبسه لأجل المرأة معاونة لها على مطلبها لِديَاثَتِهِ، وقلة غيرته، فدخل هو فى من دعا يوسف إلى الفاحشة‏.‏

فعلم أن يوسف لم يترك الفاحشة لأجلـه، ولا لخـوفـه منـه، بل قد علم يقينًا أنه لم يكن يخاف منـه، وأن يوسـف لو أعطاهـا ما طلبت،لم يكن الزوج يدرى،ولو درى فلعلـه لم يكـن ينكـر؛ فإنه قد درى بالمراودة والخُلْوَةَ التى هى مقتضية لذلك فى الغالب فلم ينكـر، ولو قـدر أنـه هَمَّ بعقوبة يوسف فكانت هى الحاكمة على الزوج القاهرة له‏.‏ وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن‏)‏، ولما راجعنه فى إمامة الصديق قال‏:‏‏(‏إنكن لأنتن صواحب يوسف‏)‏، ولما أنشده الأعشى‏:‏

/وهن شر غالب لمن غلب

استعاد ذلك منه وقال‏:‏ وهن شَرُّ غالب لمن غلب‏.‏ فكيف لا تغلب مثل هذا الزوج وتمنعه من عقوبة يوسف‏؟‏ وقد عهد الناس خلقًا من الناس تغلبهم نساؤهم، من نساء التتر وغيرهم، يكون لامرأته غرض فاسد فى فتاه، أو فتاها، وتفعل معه ما تريد، وإن أراد الزوج أن يكشف أو يُعَاقِب منعته ودفعته، بل وأهانته وفتحت عليه أبوابًا من الشر بنفسها، وأهلها وحَشَمِهَا، والمطالبة بصداقها وغير ذلك، حتى يتمنى الرجل الخلاص منها رأسًا برأس، مع كون الرجل فيه غيرة فكيف مع ضعف الغيرة‏؟‏‏!‏

فهذا كله يبين أن الداعى ليوسف إلى ترك الفاحشة كان خوف الله لا خوفًا من السيد؛ فلهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏23‏]‏، قيل‏:‏هذا مما يبين محاسن يوسف، ورعايته لحق الله وحق المخلوقين، ودفعه الشر بالتى هى أحسن، فإن الزنا بامرأة الغير فيه حقان مانعان، كل منهما مستقل بالتحريم‏.‏

فالفاحشة حرام لحق الله ولو رضى الزوج، وظلم الزوج فى امرأته حرام لحقه، بحيث لو سقط حق الله بالتوبة منه فحق هذا فى امرأته لا يسقط، كما لو ظلمه وأخذ ماله وتاب من حق الله، لم يسقط / حق المظلوم بذلك؛ ولهذا جاز للرجل إذا زنت امرأته أن يقذفها ويلاعنها، ويسعى فى عقوبتها بالرجم، بخلاف الأجنبى، فإنه لا يجوز له قذفها ولا يلاعن، بل يُحَدُ إذا لم يأت بأربعة شهداء، فإفساد المرأة على زوجها من أعظم الظلم لزوجها، وهو عنده أعظم من أخذ ماله‏.‏

ولهذا يجوز له قتله دفعًا عنها باتفاق العلماء، إذا لم يندفع إلا بالقتل بالاتفاق، ويجوز فى أظهر القولين قتله وإن اندفع بدونه، كما فى قصة عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ لما أتاه رجل بيده سيف فيه دم، وذكر أنه وجد رجلا تفخذ امرأته فضربه بالسيف، فأقره عمر على ذلك وشكره، وقَبِلَ قوله أنه قتله لذلك إذ ظهرت دلائل ذلك‏.‏

وهذا كما لو اطلع رجل فى بيته، فإنه يجوز له أن يَفْقأ عينه ابتداء، وليس عليه أن ينذره، هذا أصح القولين، كما ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لو اطلع رجل فى بيتك ففقأت عينه ما كان عليك شىء‏)‏، وكذلك قال فى الذى عض يد غيره فنزع يده فانقلعت أسنان العاض‏.‏

وهـذا مذهب فقهاء الحديث، وأكثر السلف، وفى المسألتين نزاع ليس هذا موضعه، إذ المقصود أن الزانى بامرأة غيره ظالم للزوج، وللزوج حق عنده؛ ولهذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم أن من / زنى بامرأة المجاهد؛ فإنه يُمَكَّن يوم القيامة من حسناته يأخذ منها ما شاء‏.‏

وفى الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أى الذنب أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تجعل الله ندًا وهو خلقك‏)‏، قلت‏:‏ ثم أى‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تقتل ولدك خشية أن يُطْعَمَ معك‏)‏، قلت‏:‏ ثم أى‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تزانى بحَليلَة جَارِكَ‏)‏ فذكر الزنا بحليلة الجار، فعلم أن للزوج حقًا فى ذلك، وكان ظلم الجار أعظم؛ للحاجة إلى المجاورة‏.‏

وإن قيـل‏:‏هـذا قـد لا يُمَكِّـن زوج المرأة أن يحترز منـه،والجار عليه حق زائد على حـق الأجنبى، فكيف إذا ظلم فى أهلـه والجـيران يـأمـن بعضهم بعضًا، ففى هـذا من الظلم أكثر ممـا فى غـيره، وجـاره يجب عليـه أن يحفظ امـرأته مـن غـيره، فكيف يفسـدهـا هو‏.‏

فلما كان الزنا بالمرأة المزوجة له علتان كل منهما تستقل بالتحريم، مثل لحم الخنزير الميت، عَلَّلَ يوسف ذلك بحق الزوج، وإن كان كل من الأمرين مانعًا له، وكان فى تعليله بحق الزوج فوائد‏:‏

منها‏:‏ أن هذا مانع تعرفه المرأة وتعذره به، بخلاف حق الله ـ تعالى ـ فإنها لا تعرف عقوبة الله فى ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ أن المرأة قد ترتدع بذلك، فترعى حق زوجها، إما /خوفًا وإمـا رعاية لحقه، فإنه إذا كان المملوك يمتنع عن هذا رعاية لحق سيده؛ فالمرأة أولى بذلك؛ لأنها خائنة فى نفس المقصود منها، بخلاف المملوك، فإن المطلوب منه الخدمة، وفاحشته بمنزلة سرقة المرأة من ماله‏.‏

ومنها‏:‏ أن هـذا مانع مُؤْْيس لها فـلا تطمع فيـه لا بنكاح ولا بِسِفَاح ، بخـلاف الخَلِىَّـة من الزوج، فإنها تطمع فيه بنكاح حلال‏.‏

ومنها ‏:‏ أنه لو علل بالزنا فقد تسعى هى فى فـراق الزوج ، والتزوج به ، فإن هـذا إنما يحرم لحق الزوج خاصة ؛ ولهذا إذا طلقت امرأته باختياره جاز لغيره أن يتزوجها، ولو طلقها ليتزوج بها ـ كما قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عَوْف ٍ‏:‏ إن لى امرأتين فاختر أيتهما شئت حتى أطلقها وتتزوجها ـ لكنه بدون رضاه لا يحل، كما فى المسند عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ ليس مِنَّا من خَبَّبَ امرأة على زوجها، ولا عبدًا على مواليه‏)‏ ‏[‏قوله‏:‏ خَبَّب‏:‏ أى خدع وأفسد‏]‏ ، وقد حَرَّمَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يَخْطِب الرجل على خِطْبَة أخيه، ويَسْتَام على سَوْمِ أخيه، فإذا كان بعد الخِطْبَةِ وقبل العقد لا يحل له أن يطلب التزوج بامرأته فكيف بعد العقد، والدخول والصحبة ‏؟‏ ‏!‏

فلو علل بأن هذا زنا مَحَرَّم ربما طمعت فى أن تفارق الزوج وتتزوجه، فإن كَيْدَهُنَّ عظيم، وقد جرى مثل هذا‏.‏ فلما علل بحق / سيده وقال‏:‏‏{‏إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ‏}‏، يئست من ذلك، وعلمت أنه يراعى حق الزوج، فلا يزاحمه فى امرأته البتة، ثم لو قدر مع هذا أن الزوج رضى بالفاحشة وأباح امرأته، لم يكن هذا مما يبيحها لحق الله ولحقه ـ أيضًا ـ فإنه ليس كل حق للإنسان له أن يسقطه، ولا يسقط بإسقاطه، وإنما ذاك فيما يباح له بذله، وهو ما لا ضرر عليه فى بذله، مثل ما يعطيه من فضل مال ونفع‏.‏

وأما مـا ليس له بذلـه فلا يباح بإباحته، كما لو قال له‏:‏ علمنى السحر والكفر والكهانة، وأنت فى حل من إضلالى، أو قال له‏:‏ بِعْنى رقيقًا وخذ ثمنى، وأنت فى حل من ذلك‏.‏

وكذلك إذا قـال‏:‏ افعل بى أو بابنتى أو بامرأتى أو بإمائى الفاحشة، لم يكن هذا مما يسقط حقه فىه بإباحته، فإنه ليس له بذل ذلك، ومعلوم أن الله يعاقبها على الفاحشة وإن تراضيا بها، لكن المقصود أن فى ذلك ـ أيضًا ـ ظلمًا لهذا الشخص لا يرتفع بإباحته، كظلمه إذا جعلـه كافـرًا أو رقيقًا، فـإن كونه يفعل به الفاحشة أو بأهله، فيه ضرر عليه لا يملك إباحته؛ كالضرر عليه فى كونه كافرًا، وهو كما لو قال له‏:‏ أَزِلْ عقلى وأنت فى حل من ذلك؛ فإن الإنسان لا يملك بذل ذلك، بل هو ممنوع من ذلك، كما يمنع السفيه من التصرف فى ماله، أو إسقاط حقوقه، وكذلك المجنون والصغير؛ فإن هؤلاء محجور عليهم لحقهم‏.‏

/ولهذا لو أذن له الصبى أو السفيه فى أخـذ مالـه لم يكـن لـه ذلك، ومـن أذن لغيـره فى تَكْفِـيرهِ أو تَجْنِيِنه أو تَخْنِيثِهِ والإفحاش بـه وبأهلـه،فهـو مـن أَسْفـه السفـهاء، وهذا مثـل الربـا،فـإنـه وإن رضى به المرابى وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك؛لما فيه من ظلمه؛ ولهـذا لـه أن يطالبـه بما قبض منـه مـن الزيـادة، ولا يعطيه إلا رأس ماله، وإن كان قد بذلـه باختياره،ولو كـان التحـريم لمجرد حق الله ـ تعالى ـ لسقط برضاه، ولو كان حقه إذا أسقطـه سقط لما كـان لـه الرجـوع فى الزيـادة، والإنسان يحـرم عليـه قتـل نفسـه أعظم مما يحـرم عليـه قتـل غيره، فلو قـال لغيره‏:‏ اقتلنى لم يملك منـه أعظم ممـا يملك هـو مـن نفسـه‏.‏

ولهذا يوم القيامة يتظلم من الأكابر، وهم لم يكرهوهم على الكفر، بل باختيارهم كفروا‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 66 ـ68‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏38‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وكذلك الناس يلعنون الشيطان، وإن كان لم يكرههم على الذنوب ، / بل هم باختيارهم أذنبوا‏.‏

فإن قيل‏:‏ هؤلاء يقولون لشياطين الإنس والجن‏:‏ نحن لم نكن نعلم أن فى هذا علينا ضررًا، ولكن أنتم زينتم لنا هذا وحَسَّنْتُمُوهُ حتى فعلناه، ونحن كنا جاهلين بالأمر‏.‏ قيل‏:‏ كما نعلم أن الجاهل بما عليه فى الفعل من الضرر لا عبرة برضاه وإذنه، وإنما يصح الرضاء والإذن ممن يعلم ما يأذن فيه ويرضى به، وما كان على الإنسان فيه ضرر راجع لا يرضى به إلا لعدم علمه، وإلا فالنفس تمتنع بذاتها من الضرر الراجع‏.‏

ولهذا كـان مـن اشترى المعيب والمدلس والمجهول السعر ولم يعلم بحاله غير راض به، بل لـه الفسخ بعـد ذلك؛ كـذلك الكفـر والجنـون والفاحشـة بالأهـل، لا يرضى بها إلا مـن لم يعلم بما فيها مـن الضرر عليه، فإذا أذن فيها لم يسقط حقه،بل يكون مظلومًا، ولو قال‏:‏ أنا أعلم ما فيها من العقاب وأرضى به كان كذبًا، بل هو من أجهل الناس بما يقوله‏.‏

ولهذا لو تكلم بكلام لا يفهم معناه، وقال‏:‏ نويت موجبه عند الله، لم يصح ذلك فى أظهر القولين؛ مثل أن يقول‏:‏ ‏(‏بهشم‏)‏ ولا يعرف معناها، أو يقول‏:‏ أنت طالق إن دخلت الدار وينوى موجبها / من العربية، وهو لا يعرف ذلك؛ فإن النية والقصد والرضا مشروط بالعلم، فما لم يعلمه لا يرضى به، إلا إذا كان راضيًا به مع العلم، ومن كان يرضى بأن يُكَفَّر ويُجَنَّ وتُفْعَل الفاحشة به وبأهله، فهو لا يعلم ما عليه فى ذلك من الضرر، بل هو سفيه، فلا عبرة برضاه وإذنه، بل له حق عند من ظلمه وفعل به ذلك غير ما لله من الحق، وإن كان حق هذا دون حق المنكر المانع‏.‏

ولهذا قال يوسف ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏23‏]‏، يقول‏:‏ متى أفسدت امرأته كنت ظالمًا بكل حال، وليس هذا جزاء إحسانه إلى‏.‏

والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم بعضًا، وإن كانوا فعلوه بتراضيهم، قال طاوس‏:‏ ما اجتمع رجلان على غير ذات الله إلا تفرقا عن تقال، وقال الخليل عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏25‏]‏، وهؤلاء لا يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضًا لمجرد كونه عصى الله، بل لما حصل له بمشاركته ومعاونته من الضرر‏.‏ وقال تعالى عن أهل الجنة التى أصبحت كالصَّرِيم‏:‏ ‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ‏}‏‏[‏القلم‏:‏30‏]‏، أى‏:‏ يلوم بعضهم بعضًا، وقال‏:‏ ‏{‏الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏67‏]‏‏.‏

فالمُخَالّة ‏[‏أى‏:‏ الصداقة، بالفتح، والضم لغة‏]‏ إذا كانت على غير مصلحة الاثنين؛ كانت عاقبتها عدواة، وإنما تكون على مصلحتهما إذا كانت فى ذات الله، فكل منهما وإن بذل للآخر إعانة على ما يطلبه واستعان به بإذنه فيما يطلبه، فهذا التراضى لا اعتبار به، بل يعود تباغضًا وتعاديا وتلاعنًا، وكل منهما يقول للآخر‏:‏ لولا أنت ما فعلت أنا وحدى هذا، فَهَلاكِى كان منى ومنك‏.‏

والرب لا يمنعهما من التباغض والتعادى والتلاعن، فلو كان أحدهما ظالمًا للآخر فيه لنهى عن ذلك، ويقول كل منهما للآخر‏:‏ أنت لأجل غرضك أوقعتنى فى هذا، كالزانيين كل منهما يقول للآخر‏:‏ لأجل غرضك فعلتَ معى هذا، ولو امتنعتَ لم أفعل أنا هذا، لكن كل منهما له على الآخر مثل ما للآخر عليه؛ فتعادلا‏.‏

ولهذا إذا كان الطلب والمراودة من أحدهما أكثر، كان الآخر يتظلمه ويلعنه أكثر، وإن تساويا فى الطلب تقاوما، فإذا رضى الزوج بالدياثة فإنما هو لإرضاء الرجل أو المرأة لغرض له آخر، مثل أن يكون محبًا لها، ولا تقيم معه إلا على هذا الوجه، فهو يقول للزانى بها‏:‏ أنت لغرضك أفسدت على امرأتى، وأنا إنما رضيت لأجل غرضها، فأنت لما أفسدت على امرأتى وظلمتنى فعلت معى ما فعلت‏.‏

/ ومن ذلك أنه لو قال‏:‏ إنى أخاف الله أن يعاقبنى ونحو ذلك؛ لقالت‏:‏ أنت إنما تترك غرضى لغرضك فى النجاة، وأنا سيدتك، فينبغى أن تقدم غرضى على غرضك، فلما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ‏}‏ علل بحق سيده الذى يجب عليه وعليها رعاية حقه‏.‏

 فَصْـــل

وفى قول يوسف‏:‏ ‏{‏رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏ عبرتان‏:‏

إحداهما‏:‏ اختيار السجن والبلاء على الذنوب والمعاصى‏.‏

والثانىة‏:‏ طلب سؤال الله ودعائه أن يثبت القلب على دينه، ويصرفه إلى طاعته، وإلا فإذا لم يثبت القلب، وإلا صَبَا إلى الآمرين بالذنوب، وصار من الجاهلين‏.‏

ففى هذا توكل على الله، واستعانة به أن يثبت القلب على الإيمان والطاعة، وفيه صبر على المحنة والبلاء والأذى الحاصل إذا ثبت على الإيمان والطاعة‏.‏

/ إذا كقول موسى ـ عليه السلام ـ لقومه‏:‏ ‏{‏اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏؛ لما قال فرعون‏:‏ ‏{‏سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 127، 128‏]‏‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏41، 42‏]‏‏.‏

ومنه قول يوسف ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏90‏]‏، وهـو نظـير قـولـه‏:‏ ‏{‏وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏120‏]‏، وقـوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏186‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏125‏]‏‏.‏

فلابد من التقوى بفعل المأمور والصبر على المقدور، كما فعل يوسف ـ عليه السلام ـ‏:‏ اتقى الله بالعفة عن الفاحشة، وصبر على أذاهم له بالمراودة والحبس، واستعان الله ودعاه، حتى يثبته على العفة فتوكل عليه أن يصرف عنه كيدهن، وصبر على الحبس‏.‏

/وهذا كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏10‏]‏،وكما قال تعالى‏:‏‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏10 ـ13‏]‏، فإنه لابد من أذى لكل من كان فى الدنيا،فإن لم يصبر على الأذى فى طاعة الله، بل اختار المعصية،كان ما يحصل له من الشر أعظم مما فر منه بكثير‏.‏‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏49‏]‏‏.‏

ومن احتمل الهوان والأذى فى طاعة الله على الكرامة والعز فى معصية الله، كما فعل يوسف ـ عليه السلام ـ وغيره من الأنبياء والصالحين، كانت العاقبة له فى الدنيا والآخرة، وكان ما حصل له من الأذى قد انقلب نعيمًا وسرورًا، كما أن ما يحصل لأرباب الذنوب من التنعم بالذنوب ينقلب حزنًا وثبورًا‏.‏

فيوسف صلى الله عليه وسلم خاف الله من الذنوب، ولم يخف من أذى الخلق وحَبْسِهِم إذ أطاع الله، بل آثر الحبس والأذى مع الطاعة على الكرامة والعز وقضاء الشهوات، ونيل الرياسة والمال مع المعصية، فإنه لو وافق امرأة العزيز نال الشهوة، وأكرمته المرأة بالمال والرياسة، /وزوجها فى طاعتها، فاختار يوسف الذل والحبس، وترك الشهوة والخروج عن المال والرياسة، مع الطاعة على العز والرياسة والمال وقضاء الشهوة مع المعصية‏.‏

بل قدم الخوف من الخالق على الخوف من المخلوق، وإن آذاه بالحبس والكذب فإنها كذبت عليه؛ فزعمت أنه راودها ثم حبسته بعد ذلك‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنها قالت لزوجها‏:‏ إنه هتك عرضى لم يمكنها أن تقول له‏:‏ راودنى، فإن زوجها قد عرف القصة، بل كذبت عليه كذبة تروج على زوجها، وهو أنه قد هتك عرضها بإشاعة فعلها، وكانت كاذبة على يوسف لم يذكر عنها شىئًا، بل كذبت أولاً وآخرًا، كذبت عليه بأنه طلب الفاحشة، وكذبت عليه بأنه أشاعها، وهى التى طالبت وأشاعت، فإنها قالت للنسوة‏:‏ ‏{‏فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏32‏]‏، فهذا غاية الإشاعة لفاحشتها لم تستر نفسها‏.‏

والنساء أعظم الناس إخبارًا بمثل ذلك ، وهن قبل أن يَسْمَعْنَ قولها قد قُلْنَ فى المدينة‏:‏ ‏{‏امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 30‏]‏، فكيف إذا اعترفت بذلك وطلبت رفع الملام عنها‏؟‏

/ وقد قيل‏:‏ إنهن أعنَّها فى المراودة، وعذلنه على الامتناع، ويدل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏، وقوله ‏{‏ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 50‏]‏، فدل على أن هناك كيدًا مَنْهُنَّ، وقد قال لَهُنَّ الملك‏:‏ ‏{‏مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 51‏]‏، فهن لم يراودنه لأنفسهن، إذ كان ذلك غير ممكن، وهو عند المرأة فى بيتها وتحت حجرها، لكن قد يكنَّ أعنَّ المرأة على مطلوبها‏.‏

وإذا كان هذا فى فعل الفاحشة؛ فغيرها من الذنوب أعظم، مثل الظلم العظيم للخلق، كقتل النفس المعصومة، ومثل الإشراك بالله، ومثل القول على الله بلا علم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏، فهذه أجناس المحرمات التى لا تباح بحال، ولا فى شريعة، وما سواها ـ وإن حرم فى حال ـ فقد يباح فى حال‏.‏